بقلم-كريم البكري
مارس.. ربما هو الشهر الأقرب إلى قلبي بحُكم عيد ميلادي، ولكن ميلادي ليس إنجازًا، وكل ما يمكن تصنيفه كـ«إنجاز شخصي» حتمًا يقف خلفه آخرون.
كثيرون هم من أعتبر نفسي مدينًا بالشكر لهم، بداية من أسرتي وعائلتي مرورًا بالأصدقاء والزملاء، وصولًا لكل من علمني حرفًا وتمنيت أن أصير لهم عبدًا.
ولأن «مارس» هو شهر المرأة نظرًا لليوم العالمي الموافق 8 مارس، ويوم الأم الموافق 21 من الشهر ذاته؛ وَجَب تقديم التحية لهؤلاء اللاتي لم يبخلن علينا بشيء، وما أن علمت أن بإمكاني التعبير عن احتفائي بنماذج السيدات المؤثرات في حياتي عبر هذا الموقع، إلا وسارعت بالكتابة لهن محاولًا قول كلمة: «شكرًا».
في البداية، دعوني أُعبر عن خالص محبتي وامتناني للمرأة، بداية من طفولتها الملائكية التي تنشر السعادة والمحبة والحنان في الأرض، وصولًا لوضعها كـ«أُم» تعطي بلا مقابل، وتحب بلا حدود، وتُربي من أجل الغاية لا الوسيلة.
سعادة غامرة تملأ الكون بمجرد النظر إلى أعين طفلة، حتمًا كلنا وقعنا بأسر تلك النظرة البريئة المصحوبة بابتسامة تجبرك على مبادلتها الابتسام.
في شهر المرأة، عليّ أن أتوجه بالشكر للعديد من الأسماء التي لن تكفي مساحة المقال لحصرها، هؤلاء اللاتي شاركن في زرع الأمل داخلي سواء كنّ من العائلة أو الأصدقاء أو المُعلمات؛ لذلك سأتقدم بشكر عام للمرأة الأم والأخت والصديقة والحبيبة والرفيقة والمُعلمة.. شكرًا للمرأة البهجة والحنان والأمل والسند.. شكرًا للمرأة التي كانت «بطلة ظل» في حياة الكثيرين، وتمثل أملًا لغد أناس آخرين.
وبشكل خاص قررت أن أتقدم بالشكر لثلاثة نماذج من اللاتي تشرفت بوجودهن في حياتي الشخصية، الأولى من العائلة والثانية هي المُعلمة والثالثة صديقة.. هن «هبة وإلين وإيمان».
«هبة»
أعتبر نفسي من المحظوظين بشقيقتي الكبرى «ناني»، ولكني اليوم سأناديها باسمها الحقيقي الذي لم أعتد أن أستخدمه «هبة»، ربما لأنها هبة من هبّات الله سبحانه وتعالى.
«هبة» تجسد نعمة الأخت الكبرى التي حققت معادلة صعبة، فهي من فتحت لي ساحات النقاش واللعب والضحك والهزار وتبادل الأسرار الخاصة، وهي أيضًا من أجادت فرض شخصيتها فلم أستطع التجاوز في حقها يومًا، أو تناسي أنها أختي الكبيرة.
هبة.. كانت ومازالت ملاذي الأول، والمنطقة الآمنة التي أركض نحوها طالبًا الأمان والاحتواء، لا أتذكر عدد المشكلات التي تمكنت «هبة» من حلها رغم قلة الأدوات، ولكنّها باختصار سخّرت نفسها لدور الأم والشقيقة الكُبرى الذي أحسنت تجسيده طيلة سنوات عُمري.
شقيقتي الكبرى، رفيقة أدوار البرد والسخونية، أطمئن لدور الإنفلونزا الذي يهاجمني أثناء وجود «هبة» بجانبي، فأنا متأكد أنها لن تتركني فريسة سهلة له، ولكنها ستحاربه بالأدوية والكمدات وعصير العسل بالليمون والتسامر معي في فراش المرض حتى تهوّن علي كل ما هو صعب.
في عامي الجامعي الأخير، كنت مصابًا بأحد أدوار البرد اللعينة والذي تمكّن منّي ليلة امتحان الاقتصاد، وما كان على «أختي» سوى أنها قررت الاستيقاظ مبكرًا واصطحابي للامتحان وانتظاري حوالي ساعتين لحين الانتهاء. في الواقع كنت سعيدًا بتواجدها معي، بل ولم يصبني الخجل على الإطلاق، فمثلما اصطحبتني إلى امتحانات المدرسة الابتدائية شاءت الأقدار أن تكون معي في امتحانات الجامعة، وحتمًا ستكون معي في كل امتحانات الحياة التي تنتظرني.
أختي الكبرى بعدما درست الفنون الجميلة وتزوجت ورزقها الله بـ«آدم وديانا»، استطاعت أن تتجه للدراسات العليا الأكاديمية، وهي الآن في طريقها لتحقيق الـ« shift career»؛ وتصبح أخصائية نفسية، وهذا القرار حتمًا ليس سهلًا أو هيّنًا بل هو مسؤولية مضاعفة عليها، وأنا كُلي ثقة من جدارتها بهذه المسؤولية التي ستجعل منها «هبة» لأناس آخرين.
«إلين»
ربما «هبة» كانت أختي الشقيقة، ولكن إلين أو كما أندهها دائمًا «مس إلين» كانت أختي الروحية بل وأمي في كثير من الأحيان.
لم تكن «مس إلين» مجرد مُدرسة العلوم والأحياء فقط، ولكنها كانت أول المؤمنين بشخصي، فعينها رأت داخلي ما لم أستطع رؤيته واكتشافه وأنا في الصف الثالث الإعدادي.
أتذكر حصة «مس إلين» جيدًا، كانت في منزلها على بُعد خطوات من منزلي، ودائمًا ما كانت تُصِر على أن تكون المجموعة قليلة العدد؛ من أجل تحقيق أكبر قدر من الاستفادة والنقاش، وكنت الولد الوحيد في مجموعتي مع: «مارينا، مونيكا، ميرنا، أماني»، ونجاح «مس إلين» لم يقتصر على نجاحنا الدراسي، ولكن أيضًا شمل حفر تلك الأسماء السابقة في ذاكرتي بحروف من نور.
«مس إلين» كانت سببًا رئيسيًا في إيماني بذاتي وقدراتي، بل كانت هي العامل الحفّاز الذي ألجأ له دائمًا لإشعال طاقتي تجاه كل ما أخشاه، فحتى اليوم أحتفظ بالعبارات التحفيزية التي كتبتها لي بخطها الرائع؛ من أجل نبذ اليأس واستحضار كل ما هو إيجابي.
ممتن كثيرًا لكشكول التسميع، ومذكرة الأحياء التي لخصناها سويًا في الثانوية العامة، وسهرة ليلة الامتحان التي كانت شاهدة على إنهاء أسئلة وامتحانات كافة الكُتب الخارجية.
على المستوى الإنساني.. «مس إلين» دائمًا أجمل وأرقى من ظنوني، فهي خير نموذج للإنسانية والتراحم، عرفتها متفانية في واجبها المهني لا تضع الماديات أمام أعينها، تفتح قلبها كـ«أم» لجميع الطلاب، تسمع المشكلات الأسرية والنفسية وتسعى لحلّها، عرفتها أيقونة للمحبة؛ فأشهد الله أنني لم أستمع لها يومًا تسيء لشخص أو تقول نقدًا هدّامًا أو تندمج في أي حوار غير لائق.
«إيمان»
يقول الشاعر مصطفى إبراهيم: «أدين بدين الجدعنة.. وبدين رفاق الدرب»، وهكذا أنا أدين بدين الجدعنة والصداقة والمحبة؛ لذلك فأنا أول المؤمنين بصديقتي العزيزة إيمان.
رزقتني الحياة منذ 5 سنوات بتلك الصديقة العزيزة، التي وجدتها راقية متفتحة قارئة مثقفة، هي نوع البشر الذي يقتحم القلب بدون استئذان، بل يفرض نفسه على حياتك؛ ويجبرك أن تحمد الله على وجوده.
طالما تمنيت أن أجد الصديق الذي يشاركني الاهتمامات، وشاء الله أن تتحقق تلك الأمنية بوجودها، فتبادلنا الكتب والآراء، وذهبنا إلى معرض الكتاب سويًا، واختلفنا ونحن مؤمنين بضرورة اختلاف الآراء التي لن تفسد للود قضية.
جمعنا حب «نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وبهاء طاهر وإبراهيم عبدالمجيد»، وجمعنا شِعر الفاجومي أحمد فؤاد نجم والخال عبدالرحمن الأبنودي، وجمعتنا الثورة وأحلامها ومبادئها التي ظلّت راسخة داخلنا كأبناء هذا الجيل، وجمعتنا حلقات برنامج إبراهيم عيسى وتعليقاته الساخرة واللاذعة على الأحداث.
«إيمان».. كانت أول المبشرين لي بمستقبل رحيم، دائمًا تقول: «أنت خُلِـقت للصحافة والصحافة خُـلـِقـت لك»، وهي أيضًا أول من تنبّأ لي بأن أكتب في جريدة المقال، واليوم بعد أن حققت هذا الحلم وأصبحت أحد كُتّاب هذه الجريدة العملاقة، لازالت إيمان تقرأ مقالي بعين الصديقة والناقدة، وترسل لي تسجيلًا بصوتها بعد كل مقال تبرز لي مواطن جماله وعيوبه؛ لتضرب بذلك أفضل نماذج المشاركة البنّاء.
يغمرني فخر شديد عندما أتذكر إيمان ومستقبلها المهني، أشعر أنني كنت من المحظوظين بهذه الصديقة النادرة الحريصة دائمًا على من حولها، فدراستها الأكاديمية وعملها كناقدة ومراجعة أدبية لم يمنعاها من أداء دورها العائلي كـ«أخت كبرى» على أكمل وجه، فأنا أجدها صمام أمان عائلتها وحائط الصد الممشوق الجدير بالفخر والحب والاحترام.
كثيرات هن الواجب تحيتهن، وربما «هبة وإلين وإيمان» نماذج لكل أم ومُعلمة وصديقة؛ لذلك فالشكر موصول للجميع خاصة من لم تتسن الفرصة لذكر أسماءهن، ولا تفوتوا فرصة الاحتفاء بكل من يستحقون التقدير والمحبة، ولا تكتموا مشاعركم كثيرًا فربما الآخرين بحاجة إلى تلك الكلمة التي ستكتموها.
توقفت كثيرًا أمام الختام المناسب لهذا المقال، ولكني سأكتفي بكلمتي: «المجد للمرأة».