بين أروقةِ الإبداع يُعبرُ كل ذي فنٍ بفنه عن تلك الكتلة من العواطف، التي اتفق الكل عليها، لتكون من بين الموضوعاتِ النادرةِ التي يجتمع عليها الجنس البشري، إنها الأم، ذلك الكائن الأسطوري الذي يحتوي الطفل مهما كبُر، ليظل في نظرها طفلًا يحتاج الرعاية.
وتشكلت في هذا المضمار إبداعات من الشعر والقصة والموسيقى والرسم، كلٌ منهم يحاولُ جاهدًا أن يصف أمه، فنجد بيتهوفن يعبر عن أمه بالموسيقى قائلًا: "إن أرق الألحان وأعذب الأنغام لا يعزفها إلا قلب الأم"، بينما يعبر جبران خليل جبران بكلمات مقتضبة عن قيمة الأم قائلًا: "كل البيوت مظلمة، إلى أن تستيقظ الأم".
ومن رواق الموسيقى إلى رواق الأدب، فبينما اشتهر الأدب في كل قطر من أقطار الأرض بصفةٍ تميزه عما سواه، كانت الأم حاضرةً بقوة، لتكون هي الرمز للثورة والمأساة والحب والتضحية، والشعب اللامبالي إذا ما لزِم الأمر.
وهذا ما جعل رواية "الأم" تفوز بجائزة نوبل عام 1926، لصاحبتها الإيطالية "جراتسيا داليدا"، في هذه الرواية لم يكن حب الأم وحنانها هو البطل في الرواية، بل ذهبت الكاتبة إلى أبعد من ذلك فكانت المأساة هي البطل، المأساة والمعاناة التي تعانيها الأم على مصير الابن، وكيف تشعر الأم حيال ابنها حتى وإن كانت أميةٌ جاهلة مثل البطلة الأم في هذه الرواية.
ومن عام 1926 إلى عام 1939، ومن الرواية إلى المسرح، ومن إيطاليا إلى ألمانيا حيث تتغير الثقافة وتظل الأم ثابتة، إذ عبر الشاعر والمسرحي الألماني "برتولت بريخت" في مسرحيةٍ ينظر لها النقاد على انها أعظم المسرحيات المناهضة للحربِ على الإطلاق، حيث دعا لنبذِ العنف من خلال مشاعر الأم، وأسقط الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي عايشته ألمانيا وأوروبا كلها في مشاعر أمٍ تناهض من أجل أبناءها، وسجل ذلك في مسرحيته "الأم الشجاعة وأبناؤها".
أما عن مصر، وأدبها فقد حضرت الأم بقوة في عملين على النقيض تماما، إذ صورها نجيب محفوظ في ثلاثيته على أنها المرأة المنكسرة العطوف التي تحنو على الكل، حتى على المستعمر آنذاك، وذلك في دعائها لأبنائها وزوجها المستبد وحتى عساكر الإنجليز في الشارع، فهم في النهاية أبناء امرأة أخرى وهي تعرف معنى أن ينفطر قلب أم على ولدها، وهنا لم يقصد نجيب محفوظ أن يصور الأم فحسب، بل سعى كما يرى الكثير من النقاد والباحثين، أن يُسقط حال مصر كدولةٍ تحتضن كل من جاءها حتى ولو مستعمرًا على تلك الأم العطوف "أمينة"، المستعبدة لزوجها الغارق في الملذات "السيد أحمد" والذي أشار إليه في الإسقاط على أنه الملك فاروق الدكتور محمد بدوي أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، في كتابه "علم اجتماع الادب.. تحليل سوسيولوجي لثلاثية نجيب محفوظ".
وينقلنا الروائي خيري شلبي نقلة جذرية في روايته التي تحولت فيما بعد لمسلسل جماهيري "الوتد"، والذي رسم من خلالها الأم في الريف المصري، وكيف تكون الأم القوية "عمود الخيمة" ووتد يشدُ إليه الجميع، ليجعلهم ثابتين على أرضٍ صلبة، فنجد شلبي يجعل الأم "فاطمة تعلبة" تمسك السلاح للدفاع عن أبنائها تارة، وتحكم على الجميع بالقسوة تارة أخرى وما بين هذا وذاك، نجد الروائي لا ينسى عاطفة الحنان التي كانت تتوهج منها، وعلى الرغم من ذلك كانت قوية صلبة.
وانتقالًا من الإسقاط السياسي والاقتصادي والحربي، إلى الإسقاط الحضاري، نجد الأم حاضرةً أيضا، فالكاتب المغربي إدريس الشرايبي ألقى الضوء على هذا المضمار من خلال روايته "الحضارة أمي" إذ سلط الضوء على صراع الحضارات وعلى ضرورة الانتقال إلى حضارة أوسع وأشمل دونما النظر إلى الموروثات الخاطئة من وجهة نظره، واستخدم الأم في هذا المجال، إذ تدور الرواية حول أخين يحاولا مساعدة أمهما على الخروج من العزلة التي فرضها عليها الأب المتسلط في الرواية، ويجعلاها تطلع على حضارات العالم الخارجي ليعقد الكاتب المقارنات بين الحضارات من خلال هذه الأم.
وبعيدًا عن الإسقاطات والرمزية في الرواية، نجد عبد الحميد جودة السحار يبدع في روايتيه "أم العروسة"، و"الحفيد"، ليقدم الصورة الحقيقية للأم المشغولة طوال الوقت من أجل أبنائها، قائمةً على خدمتهم، ولا تعبئ بما سوى ذلك، كما صور نجيب محفوظ أيضا متاعب الأم في روايته "بداية ونهاية" وأبرز دور الأم التي تقوم مقام الأب بجوار دورها كأم، ووضع قلمه لتوضيح معاناة الأم المعيلة وحدها دون رجل يساندها في التربية.
أما عن المشاعر المباشرة بين الأم والمبدعين فلم تكن لتُخط إلا في القصائد، إذ أنتج المبدعون تحفًا فنية كاملة الصدق في المشاعر؛ وذلك لاعتمادهم على مشاعرهم الحقيقية بأمهاتهم، فنجد محمود درويش يفضي بحنينه إلى أمه بقوله:
"أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي..
وتكبر في الطفولة يوماً على صدر يوم
وأعشق عمري لأني إذا مت أخجل من دمع أمي."
ويأبى فاروق جويدة ألا يُكلل أشعاره بكلماتٍ عن الأم فيقول:
وتركت رأسي فوق صدرك
ثم تاه العمر مني.. في الزحام
فرجعت كالطفل الصغير..
يكابد الآلام في زمن الفطام
والليل يفلح بالصقيع رؤوسنا
ويبعثر الكلمات منا.. في الظلام
بينما يلخص نزار قباني المشاعر في قوله: "بموت أمي.. يسقط آخر قميص صوف أغطي به جسدي، آخر قميص حنان، آخر مظلة مطر.. وفي الشتاء القادم، ستجدونني اتجول في الشوارع عاريًا".
فنحن إذا ما نظرنا لثقافات العالم لوجدنا اختلافا بينًا فيها، فطرق الإبداع مختلفة، إذ لكل ثقافة ما يميزها عن الأخرى، وما يحبه شعب يبغضه آخر، وما تقدسه مجموعة تدنسه أخرى، وإن ثمة شيء يتفق عليه أهل الأرض كافة، سيكون هذا الشيء حب الأم وتقديسها.
وتزخر الموروثات الأدبية بما يوضح أن الأم عاملٌ مشترك، فهذه الكتلة من الحنان والعطف والخوف لا تجدها في أي شيء آخر سوى الأم، وهذا ما جعل المبدعون يتفننون في وصف مشاعر الأم، أو لربما تشبيه الأشياء بهذه المشاعر الفياضة، فيخبرنا التراث الإسلامي أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أراد أن يشبه مدى رحمة الله وحبه لعباده، ما وجد شبهًا سوى الأم ليقول إنه أحن منها، وهذا إشارةً ومعرفةً منه عليه السلام بعظيم هذه المنزلة، وعندما نجد المسيح عيسى ابن مريم تختلف الأديان في أبيه بين مؤلهٍ وناقض لوجود أب له، في حين أن الكل لم يُنكِر وجود أمه العذراء مريم عليها السلام، فإن كان الاستغناء عن أحد الأبوين ضروريًا فبالطبع لن تكون الأم هي من تختفي من حياة البشر.