تطل علينا من زوايا القرى والأحياء القديمة قصصًا، تبدو كأنها نسج خيال، نتوارثها من أجيال كانت أقصى صراعاتها تقف عن حد ملاحقة الطيور الجارحة في الحقول بأن ينصبوا لها "خيال مآتة" كي تفر بعيدًا بلا ضرر يلحق بها، أجيال وأناس عاشوا في سلام آمنين.
قصص يعتبرها الكثيرين الآن محض جهل أو فطرة، يزيدون عليها بالسخرية والسفه، غير عابئين بأنها كانت جزءًا من حياة حقيقية لأجيال عاشت على أرض مشتركة، وعادات متلامسة، وديانات لم تكن تعرف التطرف بعد، فقط عاشوا كما يجب أن تعاش الحياة لمن في إمكاناتهم.
يردد علينا كبار السن قصصًا بطرق مسلية، تشعرنا كأنهم يريدون أن ينسجوا منها مدنًا كاملة، يهرعون إليها من واقع لم يعد يشبههم، ولا يشبه فطرتهم التي تداخلت مع كل شيء في حياتهم، حتى وإن كانوا مختلفي الديانات والأعراق والسن وحتى اللون.
في قرية الرزقة، بمحافظة قنا، حيث يعيش منذ زمن مسلمون ومسيحيون في بيوت متجاورة متداخلة، مثل باقي القرى في أغلب محافظات الجنوب خاصة قنا والأقصر وأسوان، التي تشهد قراها تنوعًا بينًا، يظل التعايش هو ملجأها الأخير.
في هذه القرية قديمًا، كان بعض المسلمون والمسيحيون يتشاركون الصيام، ليس لعلة دينية خالصة، بل للإيفاء بنذر، وتقربًا لله في كل دين، النذر في الجنوب من أهم مظاهر الحياة عند أهل القرى، يقرنونه بأغلب مصائرهم، حيث يقومون بالنذر للرغبة في تحقيق دعوتهم، ثم تسديده في حال تحقيقها كنوع من الإيفاء بالوعد والشكر أيضًا، لا يلتفتون إلى اختلاف الأديان، بل إلى اجتماع المحبة والرغبة في القرب والدعوة بكل طريق.
لا يتوقف الأمر عند الصيام فقط، بل في حالات المرض والضيق، فعند الانتهاء من الحيل الطبية والدينية يتبادل الجيران الذهاب إلى الشيوخ أو إلى القساوسة؛ للاستعانة بهم على المرض والكروب والآلام أو الضيق.
وفي رمضان كان يصوم المسيحيون كما المسلمون، يمتنعون عن الأكل والشرب، يفطرون ويتسحرون مثلهم تمامًا، ويصوم المسلمون صيام العدرا مثل صيام المسيحيين أيضًا، وفي الأعياد يقيمون نفس الطقوس معًا، كأنها أعيادًا مشتركة، مثل كعك العيد في رمضان والأضحى والقيامة وعيد الميلاد، وفي أسبوع الآلام؛ لا تستطيع أن تفرق بين مسلم وآخر مسيحي إلا إذا تفحصت أسفل راحة كف أحدهم لتتأكد من وجود صليب أم لا، يغزل المسلمون أساور الخوص ويزينون بها منازلهم في أحد السعف، يأكلون العدس والحادق والبيض، يذبحون الطير، ويعرفون الأيام بأسمائها، ويقيمون لكل يوم طقسه الخاص.
لا تعرف كيف تميز بين دين وآخر في أوجه الناس، إلا إذا وجهت سؤالك مباشرة أو انتظرت ميعاد الصلاة في الكنيسة أو المسجد، حتى هذه المواعيد يمكنك أن تصادف بها وجود مسلمين داخل كنيسة لزيارة بغرض الإيفاء بالنذر، أو تجد مسيحيين في ساحات المساجد والمشايخ يطلبون شفاءً من مرض أو إيفاءً بالنذر.
كل شيء في القرى قديمًا ليس له خطوط ترسمها الاختلافات، وكأن الحياة فيها رسمت بالفطرة لأناس أقاموا حياة متسامحة، تعينهم على الحياة بقلب لا يعرف إلا الحب، حتى وإن وُصف هذا الحب الآن بالجهل.