في إحدى الأيام، شاهدت أنا وأصدقائي فيلمًا تسجيليًا، كان يتحدث عن تلك الفتاة الريفية التي تحمل العديد من الطموحات والأحلام، تلك الفتاة وبالرغم من أنها لم تتلق تعليمًا مثلي أنا وأصدقائي إلا أنها فاجأتني منذ شهرين بظهورها على إحدى البرامج التليفزيونية، وهي تتحدث عن مدى نجاحها وكيف حققت حلمها الذي كان بعيد المنال.
راوية عبد القادر.. تستطيع أن ترى السعادة والفخر في عينيها البُنيتين بينما تتحدث وهي مرفوعة الرأس مع بعض من الحياء عن كفاحها وكيف سافرت من قرية تونس بالفيوم إلى مرسيليا بفرنسا، من خلال عالم الخزف.
طفولتها..
لم تكن سعيدة، بل عاشت أهوالًا سببها لها والدها، فكان دائمًا ما يثير الرعب في نفسها هي وإخوتها، لم يوافق على تعليمهم بل تركهم يعملون في الفلاحة ورعاية البهائم، حتى جاء ذلك اليوم ليعلن عن رغبته بالزواج من سيدة أخرى تعرف عليها بالقاهرة، وبالرغم من عدم موافقة والدتها، إلا أنه باع معظم ممتلكاتهم وسافر بالأموال وتركهم لمصيرهم.
لم تستسلم والدة راوية، بل عملت في بيع الخضرة بالسوق وساعدتها ابنتيها في رعاية البهائم، حتى جاء ذلك اليوم السعيد الذي أعلن فيه أن راوية وأختها قد تمت خطبتهما، ظهر والدها مجددًا وأخبر راوية أنه يرغب ببيع "سيغتها".
كانت تلك أول مرة تتجرأ راوية وتعترض على أحد أوامر والدها قائلة: "الحاجة دي مش بتاعتنا، مش ملكنا، مينفعش نبيعها أيًا كان السبب"، تلك الكلمات جعلت والدها يرغب بمعاقبتها أو ربما بالانتقام منها، فجاء في أحد أيام الجمعة قبيل الصلاة، وبينما كانت تسخن نجلته المياه، أخذ "الوابور" وضربها به، ما أسفر عن نشوب حريق في الغرفة وملابسها، ولم يكن لها ملاذًا سوى الجيران.
معرض راوية لأعمالها الخزفية
البداية..
أخبرها الطبيب بأنها يجب أن تستعمل يديها المشوهة حتى يكتمل علاجها، فبعث لها الله تلك السيدة الروسية مدام "إيفيلن بوريه"، علمتها كيفية صناعة الخزف، وكانت راوية هي الفتاة الوحيدة والأولى في قريتها التي تتعلم تلك الصنعة، أما عن الفخار فأصبح ملجأها الذي تشعر فيه بالأمان.
لم يكن هدفها من صناعة الخزف كسب المال بل تعلمها، فبحسب قولها: "كل الشباب اللي كانوا بيتعلموا معايا كان هدفهم الرئيسي الفلوس، بس أنا كنت عايزه أتعلم".
يظهر مدى تأثر راوية، بقريتها في رسوماتها، فجميعها مستوحاة من الحيوانات، الطيور، الأشجار، والزهور.
فرن تحميص الفخار
الفخار أم الزواج؟
"مش عايزه أسيب الفخار، عشان أنا حبيته أوي، وبذلت جهد كبير فيه، مش عايزه أسيبه وأشتغل فلاحة تاني في الغيط، وأتجوز واحد يجبرني أسيب الفخار، وأخلف له عيال وأكون زي خدامة عنده في البيت"، هكذا أجابت راوية حينما سألتها المخرجة عن رأيها في الزواج.
أما عن مواصفات الرجل الذي تحلم بالزواج منه، فقالت وهي تبتسم: "الزوج اللي بحلم بيه، مش هسيبه محتاج حاجة، أنا هعمل كل اللي هو عايزه، بس في الآخر يسيبني أشتغل، مش يبقا عايز ياخد كل وقتي، ونتفاهم مع بعضنا لأن عندنا في الفلاحين الكلام مبيكونش غير بالضرب".
راوية تصنع أحد الأواني الفخارية
الحلم يتحقق..
"أنا لما أخدت الخطوة، بدأت على الضيق، كنت قاعدة في شقة صغيرة، استغنيت عن مطبخي وعملت فيه حوض الطين، وبير السلم عملت فيه الفرن"، تلك كانت الخطوة الأولى لعمل ورشة خاصة بها، وعرضت فكرتها على بعض الأشخاص لتمويلها.
فاجأتني أيضًا في البرنامج حينما تحدثت عن قيامها بالتسويق لعملها، بقولها "أنا عندي إيميل وحساب على الفيسبوك، بعرض عليه شغلي، وكل سنة بيبقى ليا معرض في مكتبة الإسكندرية وكمان أرض المعارض"، مشيرة إلى امتلاكها العديد من الأعمال في ثلاثة بازارات مشهورة بالزمالك.
وختامًا للفيلم، تسألها المخرجة "عايزه تعيشي قد ايه؟" لترد عليها راوية ضاحكة: "معرفش.. أنا مش عايزو أبقى عجوزة، عايزة أعيش حياتي وأنا صغيرة ومعجزش".
حسنًا يا راوية، أنتِ بالفعل لم تصيري عجوزًا، ولم تتغيري مطلقًا حينما شاهدتك في ذلك البرنامج، الضحكة مازالت ترتسم على وجهك، وها قد حققتي حلمك وأصبحتي شخصية مشهورة، لديكي العديد من الورش، ساهمتي في تعليم فتيات قريتك، يأتي إليك السياح ليشتروا منتجاتك، أصبحتي نموذجًا يُحتذى به، أنتِ فتاة ريفية تركت بصمة في عالم الخزف، بصمة تحمل توقيعًا بـ"راوية".