احتفلت وزارة الآثار أمس الاثنين، بظاهرة تعامد الشمس على وجه تمثال رمسيس الثاني في معبد أبو سمبل، وهو ما جاء بالتزامن مع احتفالات الدولة بمرور 50 عامًا على إنقاذ معبدي أبو سمبل من الغرق الذي كان يهدد آثار النوبة كافة إبان إنشاء السد العالي، ومرور 60 عامًا على تأسيس وزارة الثقافة.
وفي ظل الاحتفالات التي يشهدها شهر أكتوبر الجاري بالثقافة والحضارة المصرية، لا يمكن أن ننسى الدور الجلل الذي قدمه فارس الثقافة الدكتور الراحل ثروت عكاشة، والذي لُقب أيضًا بوزير ثقافة الفقراء، في إنقاذ إرثنا الحضاري والثقافي من الغرق في جنوب أسوان.
معبد فيلة قبل إنقاذه من الغرق
لم تعقه دراسته للفنون الحربية في 1939 وعمله في الحياة العسكرية كضابط بالقوات المسلحة، عن دراسة الآداب وحصوله على دبلوم الصحافة في 1951، وإظهار ولعه بالثقافة والفنون ولا سيما بالفن التشكيلي على وجه الخصوص، ما وثقه في عدة مؤلفات أهمها سلسلة «العين تسمع والأذن ترى»، التي تناول فيها التطور التاريخي للفنون.
وتولى وزارة الثقافة لفترتين الأولى من 1958 إلى 1962 والثانية من 1966 حتى 1970، وذيع صيته على امتداد العالم العربي والأوروبي لما أحدثه من تغيير في المشهد الثقافي والفكري ومحاولته إنقاذ التراث الحضاري والإنساني في مصر وإيطاليا.
معبد فيلة حاليا
• كيف أنقذ آثار النوبة من الغرق؟
بعد أن اتخذت مصر قرارها بإنشاء السد العالي في أسوان عام 1954، كان مفترضًا أن تُقام خلفه بحيرة صناعية تمتد حوالي 300 كيلو متر في أرض مصر وحوالي 187 كيلو مترًا في أرض السودان، بينما كان متوقعًا أن يرتفع منسوب المياه بقدر يتراوح من 130 إلى 183 مترًا فوق سطح البحر، ما يعني غرق جميع آثار بلاد النوبة المصرية والسودانية إلى الأبد.
وكانت القيادة السياسية وقتها في مأزق كبير، فلا يمكنها التنازل عن أمل الشعب في الرخاء بعد ثورة 52، ولا يمكنها التفريط في الحضارة، واستمرت الحيرة حتى أواخر 1958، حينما بدأت الدولة في اتخاذ خطوات جادة لإنشاء السد وسط اكتفاء بتسجيل كل آثار النوبة ومعابدها المهددة بالغرق.
معبد «طافا» في متحف الآثار بمدينة ليدن الهولندية
وبينما انهمك الجميع في تسجيل معابد النوبة الـ17 وما تحويه من قطع أثرية وتماثيل فرعونية لا مثيل لها، انشغل «عكاشة» بالتفكير والبحث عن أي آلية يمكن من خلالها إنقاذ الآثار وجال إلى خاطره في لحظة تأمل يتخللها الحسرة خلال تواجده في جنوب أسوان، هاجسًا أو ربما أمنية لو تزحزحت هذه المعابد وصعدت على قمم الجبال حولها لتترك لمياه السد مجالا تتحرك فيه وتعبر خلاله.
ومن هنا بدأ يفكر جديًا في تنفيذ هذا الحلم والبحث عما يمكن أن يساعده في ذلك لعلمه أن المقدرات المالية للدولة لن تقدر على تحمل تكلفة تنفيذ هذه الفكرة، فعرضها على منظمة اليونسكو، مقترحًا تشكيل حملة دولية لإنقاذ آثار النوبة، وتحسس منها القبول، ثم ذهب بالفكرة للمجلس الأعلى للآثار وأقنع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بها واتفقا على أن تشارك مصر بثلث تكاليف المشروع.
معبد «دابود» فى حديقة «ديل أويستي» بالقرب من القصر الملكي بإسبانبا.
ومضت الأعمال منذ اللحظة الأولى دون أي توقف في سباق مع الطبيعة والنيل، حتى إبان نكسة 1967 إلى أن كللت الجهود بالنجاح في 1968 بإنقاذ معبدي أبو سمبل، ثم تلاها باقي معابد النوبة الـ17 جميعًا وأعيد إقامتها في أماكن متفرقة، ومن قبيل رد الجميل أهدت مصر الدول المشتركة في حملة إنقاذ معابد النوبة عددًا منها، فأهدت معبد «دابود» لإسبانيا، و«طافا» لهولندا، و«الليسيه» لإيطاليا، و«دندور» للولايات المتحدة، وإحدى بوابات معبد «كلابشة» المعروفة بـ«البوابة البطلمية» إلى ألمانيا، تقديرًا لمساندتهم إرث مصر الثقافي والحضاري في مشروع استغرق 11 عامًا.
• نادى بإنقاذ آثار فلورنسا والبندقية
دعا «عكاشة» خلال عضويته في اليونسكو إلى إنقاذ مدينتي البندقية وفلورنسا وما تحويان من كنوز إزاء المخاطر التي تعرضت لها حينذاك، وكانت مصر أول دولة تبرعت لإنقاذ آثار فلورنسا، وحينما تم انتخابه نائبًا لرئيس اللجنة الدولية لإنقاذ البندقية لم يتردد في القبول وتطوع للعمل بها ما يزيد على 10 سنوات.
معبد «دندور» في المتحف الأمريكى متروبوليتان
وحينما أصدرت «اليونسكو» لحسابها نسخة فرنسية من كتابه «رمسيس يُتوج من جديد»، الذي تناول فيه بالشرح والتحليل جميع مراحل حملة إنقاذ آثار النوبة، تنازل عن جميع حقوقه المادية والأدبية لمصلحة مشروع إنقاذ مدينة البندقية.
وتكريمًا لفارس الثقافة، حصل على الميدالية الفضية لليونسكو تتويجًا لإنقاذ معبدي أبو سمبل، والميدالية الذهبية لليونسكو لجهوده من أجل إنقاذ معابد فيلة وآثار النوبة في 1970، بالإضافة إلى الدكتوراه الفخرية في العلوم الإنسانية من الجامعة الأمريكية بالقاهرة في 1995، وجائزة «مبارك» في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة في 2002.
معبد «الليسيه» بمتحف تورينو الإيطالي.
هذا والكثير لم يُذكر بعد في حياة فارس الثقافة، الدكتور الراحل ثروت عكاشة، وزير الثقافة الأسبق، الذي رحل عن عالمنا في السابع والعشرين من فبراير 2012، وأبقى على حياة التاريخ والتراث، بمصر وإيطاليا وفي كل دولة أهديت إليها بعض من معابد النوبة، التي لاندثرت لولا عاطفته تجاه الحضارة وتفكيره خارج الصندوق.